كيف ننمّي تذوّقَ الطفل للغة العربيـة الفصيحـة وقدرتَه على استخدامها

الجمعة، 11 مايو 2012 0 التعليقات



بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي




اللغة العربية الفصحى محبّبة للنفس ، سهلة على التقبّل ، ميسّرة للتذوُّق والتعلُّم والاستخدام . إلا أن واقعنا اليوم وما يمرّ به المسلمون من ضعف وهوان ، ومع امتداد اللغات الأجنبية واللغة العامية في معظم المجتمعات الإسلامية ، جعل صعوبات أمام الطفل والشباب ، أمام أبناء المسلمين بصفة عامة ، في تذوقهم أو دراستهم للغة العربية .

إن كلّ لغة تحتاج من أجل تعلُّم أبنائها لها إِلى بيئة يتلقّي الطفل فيها لغته منذ صغره ، منذ طفولته . هذه البيئة المطلوبة غير متوافرة في واقعنا اليوم بالنسبة للغة العربية ، يضاف إلى ذلك أن من بين أبنائنا من تخلى عن اللغة العربية مدّعياً صعوبتها ادعاءً لا يقوم على أساس .

ملايين من المسلمين في الأرض لا يعرفون اللغة العربية ، أصبحت لغتهم الرسمية لغة أخرى غير العربية . مما يوجد صعوبة كبيرة في نشر اللغة العربية . يضاف إلى ذلك وجود قوى شديدة تحارب الإسلام ولغته بين المسلمين ، وقامت دعوات كثيرة للتخلّي عن العربية ، أو لتغيير حروفها ، أو لتغيير حركاتها . قوى كثيرة تعمل مزوّدة بالعدة والعلم والنهج .

في هذا الجو نريد أن ننشر اللغة العربيّة ونحبّبها إلى المسلمين جميعاً ، وخاصة إلى أطفال المسلمين ، أمام تحدّيات كثيرة جداً .

ولكن الذي يسهّل الأمر أن هذه اللغة هي لغة القرآن ، لغة الذكر الذي تعهد الله بحفظه :

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر :9]

ومما يسهل الأمر كذلك ارتباط هذه اللغة العظيمة بالإيمان ، بالإسلام ، والقلوب المؤمنة مازالت تخفق بإيمانها وإن كانت ألسنتها عجمت . ومازال هناك مؤمنون يعملون ويجاهدون .

ولكن لا بدَّ أن تلتقي الجهـود على هذا الأمر وعلى غيره من قضايا الإسلام ، بدلاً من أن يظل كلٌّ يعمل بمفرده ، فتتناثر الجهود ويضعف أثرها .

وكذلك يجب أن يأخذ العملُ صورة الخطة والنهج حتى يتضاعف أثره وعطاؤه ، وأن يكون النهج بصورته العامة واحداً لدى الجميع . ولا نستطيع هنا في هذه العجالة إلا أن نُعْطِي ملامح عامة ، حتى تتم الدراسات المفصّلة .

إن تذوّق الطفل للغة العربية الفصيحة وقدرته على استخدامها يعتمد على عوامل رئيسة يمكن إيجازها بما يلي :

المربي وقدرته وما يحمل من خصائص تفيد في هذا الهدف ، ومدى التزامه باستخدام اللغة العربية الفصيحة ، أو المؤسسات وأمثالها .

البيئة ومدى توفيرها للجو الصالح وعدم إثارتها عقبات .

طبيعة اللغة العربية وخصائصها التي يمكن الاستفادة منها لهذه الغاية .

الطفل طبيعته وخصائصه التي يمكن الاستفادة منها في هذا السبيل .

أما المربي فلا بدَّ أن يكـون هو نفسه ملتزماً باستخدام اللغة العربية الصحيحة ، ويملك القدرة على التوجيه والتربية والبناء ، أو أن يكون نال تدريبات وافية على هذه المهمة .

والبيئة هي العامل المؤثِّر بصورة مباشرة وغير مباشرة على تنمية هذا التذوق للغة العربية وعلى استخدامها . والبيئة قد تكون عائقاً أمام هذا الهدف ، حين تغزوها اللغات العامية وتسود فيها ، أو اللغات الأجنبية . ونقصد بالبيئة : البيت والأسرة ، والمدرسة والمربّين ، والمجتمع ومؤسساته الثقافية والإعلامية والتربوية .

ولقد كان بعض الخلفاء المسلمين ، وبخاصة في العصر الأموي ، يرسلون أولادهم إِلى أجواء القبائل العربية حيث تكون اللغة أصفى ، ويبقون فيها مدة يتلقون اللغة تلقّيا نقيّاً حتى تصبح طبيعة لهم . ذلك لأنهم أدركوا دور البيئة في الترغيب باللغة وتعلمها . فلا بُدَّ من توفير البيئة الصالحة لتنمية تذوّق الطفل للغة العربية الفصحى ، ولا بد من توفير التعليم مع الرعاية والتوجيه .

البيت والأسرة هو الحضن الأول للطفل ، سواءً أكان ذلك في مرحلة الحمل أَم الولادة أَم في سائر مراحل نمو الطفل التي سنأتي على ذكرها . ويتحمل الوالدان أكبر مسؤولية في تربية الطفل وتعهّده ونشأته . وبذلك جاء حديث الرسول r :

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول r قال : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة وأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون منها من جدعاء " [ رواه الشيخان وأبو داود ]([1])

فنستفيد من هذا الحديث الشريف عدة فوائد رئيسة : مسؤولية الوالدين ، الفطرة التي فطر الله الناس جميعاً عليها ، وأهمية دورها في التربية والبناء ، وما أودع الله فيها من قدرات وغرائز . ولنتدبر قوله سبحانه وتعالى :

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) [ الروم :30ـ32]

فالفطرة تكون في الطفل المولود سليمة غنية بما أودع الله فيها من قدرات تأخذ بالنمو على سنن ربانية ، وأهم هذه القدرات : قوة التفكير ، العاطفة ، الغرائز المختلفة ، وقبل ذلك كله الإيمان والتوحيد كأنه النبع الذي يروي جميع القوى والغرائز في الفطرة لتؤدِّي كل قوة أو غريزة دورها الذي خُلِقَتْ له ، ما دامت الفطرة سليمة لم تنحرف ولم تلوّث ولم تفسد .

وسلامة الفطرة وحمايتها من الانحراف أو التلوث أو الفساد هي الحق الأول للإنسان ، الحق الذي أهملته جميع المؤسسات الدولية أو القطرية لحقوق الإنسان .

وفي جو الأسرة بين الوالدين وسائر أفراد الأسرة يتلقَّى الطفل أَول غذاء لفطرته وقدراته . وأول حاسة تنشط عند الطفل هي حاسة السمع . إنها تنشط فيه وهو جنين في بطن أمه ، ويتأثر بكل ما يدخل سمعه في هذا الجو . ولذلك كان من معجزات الرسول r أن نبَّهَنا إلى أهمية حاسة السمع ، وذلك بالتوصية بالأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى :

فعن الحسين بن علي رضي الله عنهما عن الرسول r قال : من ولد له ولد فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان " ([2]) وأم الصبيان هي التابعة من الجن . فالصوت يؤثر في المولود ولو كان لا يعي معنى الكلام .

وعند الموت كان أمر الرسول r أن يُلقّن المحتضر لا إله إلا الله . فعن أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم وعن الرسول r قال : " لقّنوا موتاكم : لا إله إلا الله " [ رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي ]([3]) وفي حياة المؤمن تظل الشهادتان تتردّدان على لسانه وفي قلبه . فهي السمة الأولى التي تظل ترافق المسلم منذ ولادته حتى وفاته ، مادام مسلماً مؤمناً .

فحاسة السمع ونشاطها يمكن الاستفادة منها في ترغيب الطفل باللغة العربية وبتغذية الإيمان في قلبه . فالصوت يترك أثره في الجنين وفي الطفل بطريقة ربّانية لا يدركها العلم حتى اليوم .

تقول د. آريان آيزينبرغ وزميلتاها في كتابهنّ : " ماذا تتوقع عندما تنتظر الجنين " ، إن حاسة السمع عند الجنين تكون قد تطورت تطوراً كبيراً مع نهاية المرحلة الثانية من الحمل أو بداية المرحلة الثالثة . فيصبح أن الأجنّة يسمعون ما يدور من أحاديث أو قراءات في البيت ، أو عند الأصدقاء . ويعتقد بعض الباحثين المختصين في هذا العلم أنه يمكن إثارة الجنين قبل ولادته ليكون مولوداً متميزاً " .

فالبيت والأسرة هما الحضن الأول للطفل ، للإنسان ، وما يناله في هذه المرحلة المبكرة يكون أَثبت في القلب مما قد يناله في سنوات متأخرة من عمره . وصدق المثل القائل : " العلم في الصغر كالنقش في الحجر " ! فلا بد من الحرص على توفير الجو الصالح في البيت والأسرة . وإنها مسؤولية الأمة كلها والعلماء والدعاة والدولة عن العمل لبناء هذا الجو الإيماني في الأسرة المسلمة . ومن هذا الجو يتوافر كثير من العوامل التي تعين على بناء تذوق الطفل للغة العربية الفصيحة وتنميتها ، وتنمية قدرته على استخدامها .

والمدرسة جزء رئيس من البيئة كذلك ، حيث تتواصل عملية البناء للطفل بين البيت والمعهد . فتكون مسؤولية المربين في المدارس أن يتقنوا التحدّث بالفصحى ليتكونّ الجو المناسب الذي يرعى ويربى في الطفل تذوقه للفصحى واستخدامه لها .

ثم يأَتي المسجد حيث يغلب أن لا يسمع المسلم في المسجد إلا الفصحى ، سواءً أكان ذلك بالقرآن الكريم أم الدروس التي تعطى فيه ، أم خطبة الجمعة أم غيرها من الأنشطة الإيمانية ، وبذلك يرتبط البيت والمعهد والمسجد برباط قوي بحيث تتعاون هذه المراكز الثلاثة فيما بينها على تحقيق الهدف .

وتمتد ميادين البيئة بعد ذلك إلى ما يشاهده الطفل على التلفاز وسائر وسائل الإعلام ، وما يسمعه من أقربائه وزملائه في حياتهم العامة .

ولكن هذه الميادين : البيت ، المدرسة ، المسجد ، المجتمع ، تكون كلها مسؤولية أُمَّةٍ واحدة ، تحمل رسالة واحدة ، رسالة الإسلام ، وتجاهد من أجله ، فيصبح غذاء الطفل في جميع مراحل نموِّه غذاء صالحاً ، بالفصحى والإيمان والخلق وغير ذلك . وفي هذه الميادين كلها ، يكون هنالك المربي المسؤول .

ونودّ أن نشير هنا إلى قضية رئيسة ذلك أن المسؤولية لا تقف عند حدود المسؤولية المادية الدنيوية ، ولكنها مسؤولية ممتدة حتى الدار الآخرة ، بين يدي الله سبحانه وتعالى ، حين يحاسب كل إنسان عن عمله ونيته .

والعامل الآخر الذي يساعد على تنمية التذوق للفصحى هو طبيعة اللغة العربية نفسها ، وعظمة خصائصها ، وأعتقد أن اللغة العربية وكذلك سائر اللغات انبثقت في أول مراحل تكوينها من لغـة آدم عليه السلام ، اللغة التي علمه الله إياها :

( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا .... ) [ البقرة :31]

وخاطب الله آدم عليه السلام باللغة التي علّمه إياها ، وخاطب آدم عليه السلام ربـه بهذه اللغة . ثم تعلَّمها أولاده الذين تفرّقوا في الأرض باتجاهات مختلفة ، ومع كل اتجاه أخذت اللغة تنمو وتتطور في تاريخ طويل حتى أخذت الصـورة التي نجد اللغة عليها اليوم ، لغات مختلفة ، كان اختلافها آية من آيات الله :

( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ ) [ الروم :22]

فهذه اللغات آية من آيات الله ونعمة من نعمه . فبها يتم التخاطب وتتعارف الشعوب ، وتقضى الحاجات . وللغة بصورة عامة أثرها الكبير في عملية التفكير لدى الإنسان ، حتى إن بعض العلماء المختصين ، اعتبروا اللغة هي التفكير ، وبعضهم اعتبرها وعاء التفكير . ويزداد أثر اللغة في التفكير كلما كانت اللغة أغنى وأقوى و أكثر نمُوّاً .

وكان من فضل الله كذلك على الإنسان أن علمه البيان كما علمه القرآن :

( الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْأِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) [ الرحمن :1ـ4 ]

وإذا كان لكل لغة نعرفها اليوم تاريخ خاص تطورت من خلاله ، فللغة العربية تاريخ خاص متميز . فإذا قلنا إن أول أمرها كان مثل سائر اللغات انبثقت من لغة آدم عليه السلام . ثم تطورت حتى أصبحت اللغة العربية الفصحى على لسان إسماعيل عليه السلام :

فعن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن الرسول r قال : " أول من فُتِق لسانه بالعربية المبيَّنة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة " .

[ الشيرازي في الألقاب ]([4])

ولقد كشفت الآثار أن لغة النبي صالح عليه السلام قريبة جداً من اللغة العربية الفصحى في حروفها وقواعدها ، مما يوحي أن اللغة العربية في كلّ مرحلة من مراحل نموّها كانت لغة نبيّ من الأنبياء ولغة الرسالة الربانية . وكأنها لغة النبوة في مسارها الطويل ، حتى إذا اكتمل نضجها نزل بها الوحي الكريم قرآناً عربياً غير ذي عوج . فزادت بركتها وزاد فضلها ، وأصبحت بميزان الإسلام والإيمان اللغة المتميزة بخصائص كثيرة من حيث الجمال ، والجرس ، والبيان ، والفصاحة ، وحتى ميَّزها الله في كتابه الكريم وأثنى عليها .

( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ فصلت :3]

وآيات أخرى كثيرة في كتاب الله كشفت عظمة هذه اللغة التي اختارها الله سبحانه وتعالى وفضلها على لغات العالم كله . فتصبح هذه اللغة العربية منذ نشأتها قديماً وحتى اليوم لغة النبوّة الممتدة في التاريخ مع كل مرحلة من مراحل نموها ، على الشكل الذي كانت عليه في كل مرحلة .

ولما فرض الله ورسوله طلب العلم وبخاصة من القرآن الكريم بلغته العربية الفصيحة أصبحت لغةُ القرآن الكريم ، لغةَ الإسلام ، لغةَ الرسالة الخاتمة التي جاءت للعالمين ، للناس كافة :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [ الأنبياء :107]

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )

[ سبأ:28]

فهي أصبحت بذلك لغة كلّ مسلم آمن بالله واليوم الآخر ، وهي بذلك لغة الفطرة التي فطر الله الناس عليها . فهي رحمة من الله ،وهي بذلك كله لغة الإنسان تمتد مع امتداد الدعوة والبلاغ . وبذلك يكون تقبّلها وتذوّقها سهلاً عند الطفل الذي سلمت فطرته . وهذه خاصة رئيسة لتساعد على تنمية تذوق الفصحى عند الطفل في جميع مراحل نموه .

فلم تعد اللغة العربية لغة قوم محدودين ، ولكنها أصبحت لغة الرسالة الممتدة للبشرية كلها .

وإذا استعرضنا جميع الآيات الكريمة التي تحدَّثَتْ عن القرآن الكريم ولغته العربية ، لوجدنا أن اللغة العربية من خلال كتاب الله قد ارتبطت بميادين الحياة المختلفة ، مما جعلها ميسّرة في كل ميدان : فهي مرتبطة أولاً بالقرآن الكريم ووجوب تدبره ، بالتشريع والأحكام ، بالإيمان والتوحيد ، بالتقوى ، بالدعوة والبلاغ ، بالتذكير ، بالبشرى ، بالنذر ، بالعقل بالتفكير ، وبكل مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للناس في كتابه الكريم :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [ الزمر : 28،27 ]

فحتى ننمِّي عند الطفل تذوّق اللغة العربية يجب أن ننمِّي معها خصائص الإيمان والتوحيد ، ونحمي فطرته ونغذِّي الطفل بلغة القرآن ، فذلك كله يُنمي تذوقه للغة العربية الفصيحة ، وينمّي قدرته على استخدامها ، وينمي إيمانه ، ويوفّر الحوافز الإيمانية لدى المسلم .

وعندما انطلق المسلمون بفتوحاتهم ، أصبحت اللغة العربية لغة هذه الشعوب كلها ، وتقبلوها بيسر وسهولة مع تقبّل الإسلام والإيمان . وأصبح من أبناء هذه الشعوب علماء في اللغة العربية وأدباء وشعراء .

ولقد تحدّث عن عظمة اللغة العربية كثيرون من المسلمين ومن غير المسلمين ، حديث قناعة ، وحجّةٍ وبيان .

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " تعلّموا العربية فإنها تُثَبِّتُ العقل وتزيد المروءة " ([5]) وهذا نابع من ارتباطها بالفطرة والإيمان ، ومن فضل الله على الناس وعلى اللغة العربية . وقال عمـر بن الخطاب أيضاً : " تعلّموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض "([6]) وقال " تعلموا إِعراب القرآن كما تعلمون حفظه " ([7]) . وكأنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسم نهجاً ووضع خطة لتعلُّم العربية وترغيبها إلى النفوس .

ومرّ عمر بن الخطاب على قومٍ يسيئون الرمي فقرّعهم . فقالوا : إنا قوم متعلمين . فأعرض مغضباً وقال : لخطؤكم في لسانكم أشدُّ عليَّ من خطئِكم في رميكم . سمعت رسول الله r يقول : رحم الله امرءاً أصلح من لسانه " ! ولحن رجل أمام رسول الله r فقال : " علّموا أخاكم " .

ورويَ أن أبا عمرو بن العلاء كان يقـول : " لعلمُ العربيّـة هو الدين بعينه " ([8])

وهذه الخصائص كلها تسهل تنمية تذوق الفصحى عند الأطفال والشباب وأبناء الأمة المسلمة جميعاً .

ومن الضروري أن نشير هنا إِلى أنه لا يحسن أن نعالج قضية تذوق الطفل للفصحى كقضية مستقلة معزولة . كلا ! إنها جزء لا يتجزّأ من رسالة الإسلام الخاتمة ودعوته التي يجب أن تمضي في الأرض إلى الناس كافة . فمن الأهداف الربانية الأولى هي تبليغ دعوة الله إلى الناس كافة كما أنزلت على محمد r وتعهّدهم عليها ، لتحقّق بذلك جوهر العبادة وغاية الأمانة وحقيقة الخلافة وضرورة عمارة الأرض بحضارة الإيمان .

فقضية اللغة العربية قضية مرتبطة بالإسلام وبأمة الإسلام ، وبمدى قوتها وتشاطها وامتدادها .

وفي جميع هذه الحالات لا بد من توافر الطاقة القادرة على تحفيز هذه المهمة والقيام بها . وتُطْلَقُ على هذه الطاقة بصفة عامة كلمة : " المربي " ! الذي يكون حيناً الوالدين ، وحيناً آخر الأساتذة المدرسين ، وحينا آخر المؤسسات المتخصصة من ناحية والمؤسسات العامة من ناحية أخرى ، إذ يجب على الجميع تبني موضوع اللغة العربية ونشرها وحمايتها وتغذية الأطفال بها ، وتنمية تذوقها لدى الأطفال والشباب ولدى الأمة كلها .

وهذه الجهود يجب أن تلتقي كلها في نهج جامع وخطة متكاملة ، يحمل ذلك كله الوسائل والأساليب وصدق النيّة وإخلاصها لله سبحانه وتعالى .

والخطوة الأولى هي توفير البيئة الصالحة التي توفّر الفرصة لتحقيق هذا الهدف الكريم . البيئة في البيت والمدرسة والمسجد ، ثم توفير الطاقات المؤمنة المدرّبة القادرة على حسن العطاء والتربية والبناء ، والأرحام والأصدقاء جزء من البيئة التي يجب الحرص على حسن توفيرها .

ثم تبدأ الاستفادة من خصائص الطفل وخاصة حاسة السمع كما ذكرنا ، والاستفادة قدر المستطاع من مرحلة الجنين والولادة والطفولة الأولى .

وتبذل الجهود المنهجيّة للاستفادة من خصائص اللغة العربية كما ذكرنا سابقاً ، وتسخيرها من أجل هذا الهدف في جميع مراحل الطفولة .

ويجب غرس الإيمان والتوحيد كخطوة رئيسة في بناء الطفولة ، من مرحلة الجنين والولادة وسائر المراحل ، حتى يوفّر هذا العامل الحافز القوي لتذوق العربية الفصحى ودراستها واستخدامها .

كما يجب توفير البرامج والمناهج والوسائل المحدّدة لكل مرحلة من مراحل الطفولة وأول هذه البرامج توفير الفرصة لسَماع القرآن الكريم يُتلى ، وسماع بعض الأحاديث النبوية ، وسماع قاعدة بسيطة من قواعد النحو ، ثلاثة أشياء تظل متماسكة : القرآن الكريم ، الأحاديث النبوية الشريفة ، اللغة العربية . ثم ينمو هذا المنهج مع مراحل نمو الطفل حتى يشمل التلاوة اليومية  للقرآن الكريم يقوم بها الطفل نفسه على حسب مرحلة نموه ، ثم الحفظ المنهجي للقرآن الكريم ومراجعتِه وتعهّده ، وحفظ أو دراسة حديث شريف ، ويعلّم قاعدة مبسطة من قواعد النحو بأسلوب سهل مشوق . لتصبح التلاوة اليومية والحفظ والتعهد والحديث الشريف وقواعد النحو منهجاً ثابتاً في حياة المسلم صحبة عمر وحياة ، لا تتوقف حتى يلقى المسلم ربّه .

وفي مرحلة مناسبة تُختار القصائد من الشعر السهل القوي ، ليُدرس بعضها ويُحفظ بعضها على منهج محدد وخطة مدروسة .

وفي مرحلة أخرى ، يُعطى الطفل فرصة التحدّث بالعربية الفصحى بموضوع يختاره هو أو يُختار له ، ويُتجاوَز في المراحل الأولى عن بعض الأخطاء ، ويُعالج بعضها الآخر ، ويدور حوار بالعربية الفصحى بين المربي والطفل . وتكون هذه الخطوة يومية لمدة ساعة أو ساعتين حسب قدرة الطفل ، وحسب الخطة الموضوعة . ويستفاد في هذه المراحل من خصائص الطفولة وأهمها الفطرة وما أودع الله فيها من قدرات ومواهب ورغبات .

وفي مرحلة مناسبة ، تصاغ مسرحيّات قصيرة بالعربية الفصحى ، يقوم بها الأطفال أنفسهم بعد أن يدرّبوا عليها . كما يمكن أن تنظم حفلات موسمية يتحدّث فيها الأطفال بما يختارونه هم من أدب أو شعر أو موضوعات عامة ، كلُّ على قدر جهده ووسعه وميوله .

ونؤكد أنه مع الاعتماد على السماع والتدريب على التحدث بالفصحى ، فلا بد أن يصاحب ذلك دراسة قواعد اللغة العربية ، نحوها وصرفها وبيانها ، بأسلوب مشوّق سهل ، ليمتدَّ هذا العمل في مراحل الطفولة كلها . ولا ننسى قول عمر رضي الله عنه : " تعلّموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض " ، وقوله : " تعلموا إعراب القرآن كما تعلمون حفظه " ولا ننسى قول أبي عمرو بن العلاء : " لعلمُ العربية هو الدين نفسه " . ويزداد تعليم القواعد بأسلوب مشوق مع نمو الطفل ونمو مداركه .

وفي مرحلة مناسبة يشجّع الطفل على المطالعة الذاتية من كتب تناسب سنه مثل القصص والسيرة النبوية ، والشعر ، والخطب ، وغير ذلك .

ومن الوسائل المشوّقة للطفل استخدام الصور الملوّنة ، والرسوم الجميلة ، والأناشيد المفيدة ، والمرح يتخلل النشاط كله .

ويجب الحرص على إبعاد المصادر المفسدة ، وإحاطة الطفل بالجو الطاهر المشرق الذي يرعى فطرته ويغذيها بكل ما هو مفيد ، حتى تظل الفطرة عاملاً رئيساً مساعداً في عملية التربية والبناء .



--------------------------------------------------------------------------------

(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم : 5784 .
(2) رواه النووي في كتاب ابن السنى .
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم :5148 .
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته (رقم 2581) .
(1) أخبار عمر : ص :282 .
(2) البيان والتبيين : ص: 171 .
(3) أخبار عمر : ص : 282 .
(4) ياقوت الحموي ـ معجم الأدباء : ص : 10 .


0 التعليقات:

إرسال تعليق